الاشكالية التشريعية في تحديد سن المسؤولية الجنائية المكتملة!

الاشكالية التشريعية في تحديد سن المسؤولية الجنائية المكتملة!

المستشار/ صالح المرفدي

تمهيد:

تُعد المسؤلية الجنائية للقاصر مسألة حساسة، تتطلب توازناً دقيقاً بين العدالة وحقوق الأطفال، حيث تتعامل الأنظمة القانونية مع القاصرين، بشكل يتناسب مع نموهم العقلي والنفسي. وفي اليمن يثور الإشكال أحيانًا في تحديد سن المسؤولية الجنائية الكاملة للشخص، فهل يجب أن يكمل الشخص سن ال ١٧ سنه ويكتفى بدخول أول يوم من سن ال ١٨، أم يجب أن يكمل الشخص سن ال ١٨ بالوفاء والتمام؟؟. 

وسنحاول الاجابة على هذا التساؤل الهام بلغة مبسطة؛ حتى يفهمها القانونيين وغيرهم، مع التركيز على الكلمات الواردة بين قوسين، وسيكون الحديث في هذا الموضوع من خلال المحاور الاتية:

المحور الاول/ موقف القوانين اليمنية:

اولا/ النصوص القانونية:

- تنص المادة (٣٢ من قانون العقوبات) بالآتي: "لا يسأل جزائيا من لم يكن قد (بلغ) السابعة من عمره وقت ارتكاب الفعل المكون للجريمة، واذا أرتكب الحدث الذي (اتمّ) السابعة ولم يبلغ الخامسة عشرة الفعل، أمر القاضي بدلًا من العقوبة المقررة بتوقيع أحد التدابير المنصوص عليها في قانون الاحداث, فإذا كان مرتكب الجريمة قد (اتمّ) الخامسة عشرة ولم (يبلغ) الثامنة عشرة، حكم عليه بما لا يتجاوز نصف الحد الاقصى للعقوبة المقررة قانونًا، واذا كانت هذه العقوبة هي الاعدام حكم عليه بالحبس مدة لا تقل عن ثلاث سنوات ولا تزيد عن عشرة سنوات، وفي جميع الأحوال، ينفذ الحبس في أماكن خاصة، يراعى فيها معاملة مناسبة للمحكوم عليهم، ولا يعتبر الشخص حديث السن مسئولا مسئولية جزائية (تامة)، (اذا لم يبلغ) الثامنة عشر عند ارتكابه الفعل، واذا كانت سن المتهم غير محققه قدرها القاضي بالاستعانة بخبير".

- ⁠و تنص المادة مادة (٥٢٤ من قانون الاجراءات الجزائية) بالاتي: "لا يجوز التنفيذ بطريق الإكراه البدني على المحكوم عليه الذي (لم يبلغ) من العمر ثماني عشر سنة (كاملة) وقت ارتكاب الجريمة.

- ⁠فيما تنص (الفقرة الرابعة من المادة الثانية من قانون رعاية الاحداث) بالآتي: "الحــدث هو كل شخص (لم يتجاوز) سنه خمسة عشر سنة كاملة وقت ارتكابه فعلاً مجرماً قانونا، أو عند وجوده في إحدى حالات التعرض للانحراف".

- ⁠كما تنص الفقرة الخامسة من المادة الثانية من قانون حقوق الطفل بالآتي: "الطفل هو كل إنسان (لم يتجاوز) ثمانية عشرة سنة من عمره، (ما لم يبلغ) سن الرشد قبل ذلك".

- ⁠وتنص الفقرة السادسة من نفس المادة بآن الحدث هو: "كل طفل (بلغ) السابعة من عمره (ولم يبلغ) سن الرشد.


ثانيًا/ تحليل النصوص القانونية:

قد يختلف المتخصصين والمهتمين في القانون، حول تحديد سن المسؤولية الجنائية الكاملة، والتي يجب معها صراحة تطبيق العقوبة القانونية الكاملة، وجوهر هذا الخلاف يعود الى إختلاف التفسير لتلك النصوص القانونية، ويمكن اجمال هذا الخلاف على رأيين:

▪️الرأي الاول/

 يؤكد أن سن المسؤولية الجنائية الكاملة للشخص، هي إكماله سن ال ١٨ بالوفاء والتمام، معللين ذلك الرأي بالآتي:

١- إن القران الكريم وردت فيه العديد من الايات، تعني آن لفظ (البلوغ) هو تمام الشي وكماله، ومنها قولة تعالى في سورة الرعد الآية ١٤: (إِلّا كَباسِطِ كَفَّيهِ إِلَى الماءِ لِيَبلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الكافِرينَ إِلّا في ضَلالٍ)، وقول المولى عز وجل في سورة الكهف الايه ٩٣: (حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا).

٢- إن المعنى اللغوي الوارد في لفظ من (بلغ) سن ال ١٨ الوارد في المادة (٣١ عقوبات)، تعني آن يتم سن ال ١٨ كاملة؛ لإن بلوغ الشي لغويًا، يعني الوصول الى منتهاه!

٣- إن بداية كل فقرة من المادة ٣١ عقوبات، ذكرت عبارة (من لم يبلغ وانتهت بعبارة فإذا اتم)، وعلى هذا الآساس، فسّرت آن عبارة (من لم يبلغ) تعني لم يكمل سن ال ١٨ وفق السياق الاصطلاحي للالفاظ والعبارات الواردة في النص القانوني.

وفي المحصلة/

فأن أصحاب هذا الرأي، يؤكدون أن كلمة البلوغ تعني الوصول إلى نهاية الشيء، أو تحقيق الهدف بالكامل، ولا يقتصر الآمر للوصول إلى بداية الشيء، بل لابد أن يصل منتهاه!

الراي الثاني/

يؤكد على أن سن المسوولية الجنائية الكاملة للشخص، هي دخوله في آول يوم بسن ال ١٨، ولا يشترط إكمال هذا السن بالوفاء والتمام، معللين هذا الرأي بالآتي:

١- إن البلوغ لغويًا، معناه الوصول الى بداية الشيء، ولا يعني الوصل إلى تمامه وكماله، فقد ورد في بعض المعاجم اللغوية، إن بلغ الشيئ فيعني وصله، والوصول لا يعني نهاية الشيئ، بل قد يكون بدايته، بعكس الاكمال والاتمام فهي الفاظ واضحة وصريحة وتعني منتهئ الشيئ!

٢- إن المشرع اليمني غيّر العبارة المكررة ثلاث مرات في المادة ٣١ عقوبات بقوله: (فاذا تم)، وأستخدم لفظ أخر هو (من بلغ)، فهذا يعني أن هناك فرق بين لفظ البلوغ من جهة ولفظ الاتمام من جهة أخرى، فالبلوغ هو الوصول إلى بداية الشيء، الذي يختلف عن الاتمام وهو نهاية الشي وإكماله!

٣- يعلم القانونيين المتخصصين، أن الكلمة أو اللفظ في عبارات القانون لا توضع عبثا، وإنما لغاية ومقصد دقيق جدًا لا يعرفه إلا المحللين والمعمقين في تحليل وتفسير القوانين، فعندما غيّر المشرع لفظ (الاتمام) المكرر في فقرات (المادة ٣١) إلى لفظ (البلوغ)، فيعني القصد بمعنى أخر غير معنى كمال الشيء، لذلك كان المشرع قاصدًا تغير المعنى أيضًا!

وفي المحصلة/

 فأن أصحاب هذا الرأي، يخلصون الى آن البلوغ، هو الوصول الذي يختلف عن الاكمال أو الاتمام الذي يعني منتهئ الشيئ أو آخره.


المحور الثاني/ موقف الشريعة، والقضاء، والقوانين الأخرى:

▪️اولا/ موقف الشريعه:

لم يرد في الكتاب أو السنة تحديد سن معينة؛ لاعتبار الشخص حدثًا و بتمامها يكون بالغا، وما ورد من حديث النبي صل الله عليه وسلم بقوله: (والصبي حتى يحلم) رواه ابو داوؤد، لذلك، فإن فقهاء الشريعة الإسلامية استدلّوا على البلوغ بعلامات مادية جسدية، وهي التي تحدد سن المسؤولية الجنائية الكاملة للشخص، وهذة علامات تدلّ على بلوغه، كالحيض، والحبل للمرآة، والاحتلام وانبات شعر العانه للفتى. اما في حال عدم ظهور تلك العلامات إلى سن محددة، فقد تباينت آراء الفقهاء في تحديد ذلك السن على عدة أقوال ابرزها:

- للحنابله/ قال أبن قدامة في المغني: (وأما السن، فإن البلوغ به في الغلام والجارية بخمس عشرة سنة).

- و للشافعية/ قال الشافعي في الأم: (ليس على الصبي حج، حتى يبلغ الغلام الحلم، والجارية المحيض في أي سن بلغتها، أو استكملا خمس عشرة سنة).

- وذهب المالكية/ بقول خليل في مختصره: (والصبي لبلوغه بثماني عشرة، أوالحلم، أو الحيض أو الحمل أو الإنبات).

- اما الأحناف/ قال النسفي في كنز الدقائق: (ويفتى بالبلوغ فيهما -أي الذكر والأنثى- بخمس عشرة سنة، وهذا عند أبي يوسف ومحمد).وفي رواية أخرى حددوا ضرورة اكتمال سن ال ١٨، للذكر ١٨ والانثى إكمال سن ال ١٧.

- وفي المحصلة/ 

أن قول الجمهور هو الراجح، في آن علامات الاحتلام ونبات الشعر على العانة للذكر، والحيض والحمل للمرأة، هي من تحدد سن البلوغ حتى يصلا إلى سن الخامسة عشر، وهذا هو مذهب الجمهور من الشافعية والحنابلة، وأبي يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية.


▪️ثانيا/ موقف القضاء اليمني:

تصدت المحكمة العليا بصنعاء، لتفسير المقصود ببلوغ الحدث سن الثامنة عشرة، من خلال الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة، في جلستها المنعقدة بتاريخ 14/8/2017م، وفي الطعن رقم (59235) ،وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم بالاتي: ان النيابة العامة قررت إحالة المتهم بجريمة القتل إلى المحكمة، حيث قضت المحكمة الابتدائية بإدانة المتهم بجريمة القتل ومعاقبته بالإعدام، وكانت هناك شبهه في حكمها من خلال تفسير نص المادة (٣٢ عقوبات)، وقد ورد ضمن أسباب حكم المحكمة العليا الاتي: (بالتأمل في الموضوع، فقد وجدت الدائرة ان الطاعنين قد استدلوا بما ورد في معاجم اللغة التي تفيد، ان البلوغ هو الوصول إلى الشيء وليس تمام الشيء أو غايته، وهذا ماذهب إليه الحكم الابتدائي، فالدائرة تجد ان هذا المعنى لا يتفق مع ظاهر نص المادة (31) عقوبات في الفقرة محل الطعن، حيث نصت تلك الفقرة على انه (ولا يعتبر الشخص حديث السن مسئولاً مسئولية جزائية تامة، اذا لم يبلغ الثامنة عشرة عند ارتكاب الفعل)، لذلك فقد جعل المقنن من هذا السن غاية في الاستغراق لسن الثامنة عشرة بكافة أيامها وساعاتها وليس مجرد الدخول فيها، والقاعدة الاصولية تقرر، ان الحد لا يدخل في المحدود، فالمحدود هنا هو أول أيام وساعات السنة التاسعة عشرة من عمر المتهم، وكما ان الحد لا يدخل في المحدود، فان المحدود لا يدخل في الحد أيضاً، وهذا الفهم والمعنى هو المعوّل عليه في كتب الشروح الفقهية للقانون، ولذلك فقد تبين للدائرة صحة تفسير الشعبة الاستئنافية للمادة (31) مما يتعين معه رفض الطعن وإقرار الحكم المطعون فيه.

ثالثا/ موقف القوانين الاخرى: 

١- موقف القوانين العربية: 

أخذت جميع القوانين العربية بمعيار السن، كقرينة على انعدام التمييز أو نقصه أو اكتماله، لذلك، أعتبرت أغلبية القوانين العربية، أن إكمال سن ال ١٨ هو سن البلوغ الكامل.. واستثنى القانونين القطري والسوداني ذلك السن، وحدد الاول البلوغ بتمام سن ال ١٦ (م ١)، والثاني بتمام سن ال ١٥ (م ٤)، اما النظام السعودي فلم يحدد سنًا معينة، وترك تقدير البلوغ لسلطة المحكمة، بحسب حالة الشخص الذهنية والبدنية، وبحسب ظروف وملابسات كل جريمة على حدة.. كما أستخدمت القوانين العربية ألفاظ وكلمات واضحة وصريحة وقاطعة لتحديد السن - أكمل أو لم يكمل، تجاوز أو لم يتجاوز، اتمّ أو لم يتم - لتحديد سن المسوولية الجنائية، وفي الحقيقة، أن هذة الالفاظ لا تحتمل أكثر من تفسير سواءً من الناحية اللغوية أو الاصطلاحية، بعكس كلمة (بلغ)، فقد تحتمل لغويًا تمام سن ال ١٧ ودخول أول يوم في سن ال ١٨، وقد تحتمل ضرورة تمام أو اكمال سن ال ١٨. 

٢- موقف القوانين الاجنبية:

حددت أغلب تلك القوانين إكمال سن ال ٢١ لتحديد سن المسؤولية الجنائية، على الرغم أن بعض القوانين منحت السلطات القضائية حق الاجتهاد في تحديد سن المسوؤلية الجنائية، فليس لها حد محدد للسن الجنائي، فتركت السلطة التقديرية للمدعين العامين للمحاججة، أو للقضاة للبت فيما إذا كان المتهم طفلاً أم بالغا، وهل يدرك أن ما فعله كان خاطئًا، وبالتالي لا يعد من الصحيح معاملته كمذنب، إذا لم يدرك الفرق بين الصواب والخطأ، وعوضًا عن ذلك، يمكن الإقرار على عدم وجود خطأ فعلي من الجاني، من خلال معالجة المسؤولية الأبوية في الحضانة غير الخاضعة للرقابة، أو من خلال إجراءات جنائية منفصلة ضد الوالدين بسبب خرقهم لواجباتهم كآباء!

٣- موقف الاتفاقيات الدولية: 

تبرز الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل، كأهم مرجع تشريعي دولي، نظّمت حقوق الطفل، بما فيها حسم مسألة تحديد سن المسؤولية الجنائية المكتملة للطفل، التي تنص في مادتها الأولى بالاتي: "على انه ولأغراض هذه الاتفاقية، يُعْنى بالطفل أي إنسان لم يتجاوز الثامنة عشرة، ما لم يبلغ سن الرشد قبل ذلك بموجب القانون المنطبق عليه"، وتطبيقا لهذه المادة والمادة 40 من نفس الاتفاقية التي صادقت اليمن عليها قبل صدور القوانين التي ذكرناها سابقًا في المحور الأول، وبناء عليه، وطبقًا للقوانين والأعراف الدولية، واستنادًا لنصوص الدستور اليمني - المادة ٦ - أصبحت تلك الاتفاقية مُلزمة دستوريًا وقانونيًا على اليمن، ولا يجوز التنصل منها!


المحور الثالث/ الترجيح والخلاصة والتوصيات:

▪️اولا/ الترجيح:

نرجح الرأي الأول وخلاصة مضمونه، أن كلمة (بلوغ) الواردة في نص المادة (٣١ عقوبات)، تعني ضرورة آن يتم الشخص ويكمل سن ال ١٨ بالوفاء والكمال! وذلك للاسباب والحجج التالية:

 ١- إن قانون رعاية الاحداث أستخدم لفظ (لم يتجاوز)، وهو لفظ دقيق وصارم في حصر السن، وبصرف النظر آن اللفظ أستخدم لتحديد سن الحدث.

٢- إن قانون الطفل كذلك كان واضحًا كقانون الاحداث، وأستخدم لفظ (لم يتجاوز) الثامنة عشر، لكنه عاد ونسف تحديد هذا السن، واجاز تحميل المسؤولية للشخص؛ إذا ثبت أنه بلغ سن الرشد قبل سن ال ١٨ !

٣- إن قانون الاجراءات اليمني، حسم المسألة جازمًا، وأكّد آن سن المسؤلية الجنائية هي ١٨ سنه كامله (المادة ٥٢٤)!

٤- أما من الناحية اللغوية، فأن كلمة (بلغ) الواردة بالمادة (٣١ عقوبات)، فالأصح أنها تعني إتمام وإكمال الشي وليس فقط بدأ الوصول إليه، وفي هذا الخصوص، عندما نقول بلغ الشخص سن الرشد، فنعني به وصوله إلى مرحلة النضج والقدرة على تحمل المسؤولية القانونية بشكل كامل، ومن هذا المنطلق، فأن كلمة (بلوغ) توكّد الإنجاز والوصول إلى النهاية، ولا يقتصر على البداية فحسب!

٥- إن التفسير الصادر بحكم المحكمة العليا المشار اليه في المحور الثاني، قد حسم أي لبس أو شك أو غموض أو تأويل، قد يثار حول معنى كلمة (بلوغ) الواردة في المادة (٣١ ع)، وأن هذا التفسير صار مبدأ قضائي، يلزم تطبيقه من المحاكم الأدنى؛ أعمالًا لنص المادتين (١٢ فقره 5 و ١٣ فقره ج) من قانون السلطة القضائية! 

٦- إن المعلوم والمتعارف عليه في القانون الجنائي، أن نصوصه وقواعدة، عندما يثار الشك والاشكالية في تفسيرها، فإنها تفسّر لصالح المتهم، فإذا ما احتملت تلك النصوص أكثر من تفسير، أو ان هناك شبهة، فيفسر القانون أو النص لمصلحة المتهم، وهو ما أكده قانون العقوبات نفسه في المادة الرابعة منه!

٧- إن المشرع اليمني في قانون رعاية الاحداث الصادر عام ٩٢ (المادة ٢)، ذكر التقويم في تحديد السن بالسنة الهجرية، ثم عُدّل نفس القانون عام ٩٧، ومن ضمن مواد التعديل نفس المادة المتعلقة بالتقويم السنوي، وحددت بالسنة الشمسية (الميلادية) بدلًا عن السنة الهجرية - وهي أقل أيامًا من السنة الميلادية - وفي ذلك التعديل حكمة؛ لضبط سن المسوولية الجنائية بإتمام واكمال الشخص سن ال ١٨ بالتقويم الشمسي!

▪️ثانيا/ الخلاصة:

إن أي إشكال في التشريعات الحديثة المتعلقة بأساس المسؤولية، تعتمد على بلوغ الإنسان للسن القانوني الذي عينه المشرع، وغالبا ما يكون 18 سنة، ومع ذلك قد يثير هذا جملة من التساؤلات في منظومتنا الجنائية ذات الخلفية الإسلامية الواضحة، وإن اختلف الفقهاء في وضع معيار مطَّرد للبلوغ أو الإدراك، أو العقل أو التكليف أو الرشد،أو الحُلُم، أو الأشُدَّ، إلا أنهم اتفقوا على أن معنى تلك المتقاربات - إن لم تكن في نظرهم مترادفات لغوية - تختلف أحيانًا مدلولها الفقهي دون مغزاها، فقالوا إن البلوغ قوة تحدث للشخص تنقله من حال الطفولة إلى حال الرجولة، وأن الرُّشد حسن التصرف في المال، والقدرة على استثماره واستغلاله، وأن الأشُدّ طور يبتدئ بعد أنتهاء حد الصغر من وقت بلوغ الإنسان مبلغ الرجال إلى سن الأربعين، وقد حدَّه (ابن عباس) بثماني عشرة سنة وهي أقل ما فيه.

وعلى هذا الاساس، أختلف فقهاء الشريعة في علامة البلوغ كالاحتلام والحبل والحيض، كما اختلفوا أيضا في السِّن الدالَّة عليه عند عدم حصول العلامة الأولى، ومن خلال هذا التباين الجلِيِّ في الفقه، يمكِّننا فهم التصور الإسلامي للإجابة على التساؤل الملِحِّ عن مدى تحديد سنِّ البلوغ؟ و من ثمَّ، هل البلوغ الجسمي أو الجنسي الطبيعي، هو المعيار للمسؤولية الجنائية، أم أن البلوغ العقلي هو أساسها؟  

ونحن نميل الى أن سن التكليف أو الرشد الجنائي، لا يمكن أن يكون تابعًا للبلوغ الجسمي فقط، و أبسط دليل على ذلك، أننا نرى في الفقه الإسلامي تلازمَ البلوغ مع العقل، ولذلك أستثني المجنون الفاقد للعقل من المسؤوليات والتكليف الشرعي، رغم بلوغه بدنيًا وجنسيا؛ لأنه فاقد العقل والرشد وغير قادر على تمييز الأمور.

إن الإشكالية ناشئة من الجمع بين معياري، سن البلوغ الشرعي المعتبر في الأحكام العبادات، وسن الرشد العقلي المعتبر لقيام المسؤولية الجنائية، رغم أن القرآن أشار بصورة رائقة إلى الفرق بين البلوغ و الرشد، حيث يضع الرشد شرطًا في صحة المعاملة المالية، إضافة إلى شرط البلوغ، قال تعالى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ). النساء: 6، والمراد ببلوغ النكاح هو الحُلُم، و ببلوغ الرشد العقل والصلاح، فالآية دليل على أن الرشد خاص بالمسائل المالية و الجزائية؛ لأنها تؤكد على قضية الرشد وليس البلوغ في مسألة المال، فإذا كان القرآن يؤكد على ضرورة الرشد عند الأطفال كشرط لتسليم المال، فمن الأولى أن يكون الرشد معيارًا للعقوبة أيضا، ومعلوم أن حفظ النفس مقدم على حفظ المال شرعًا وضرورة. 

وانطلاقا من هذا، يمكن أن نجعل سنّ البلوغ 18 عاما معيارا لسن الرشد؛ لقربه من السياق الشرعي العام وقواعد الشريعة الكلية، خصوصًا مع تذبذب تحديد مدة الرشد المترددة في القرآن بين الأشد، بمعنى الاستحكام والقوة البدنية والنفسية، أو سنِّ الأربعين سنة كما في آيات الأنعام: 53، أو الشيخوخة كما في سورة غافر: 67، أو أهلية النبوة كما في سورة القصص: 4 ، فمن خلال تتبع السياق القرآني نجد أنه حدد سنًا معينًا للرشد، ولم يحدد سنًا للبلوغ، فالبلوغ في القرآن يحتوي على عدد من المفاهيم والأعمار و غير محدد بسن معينة، قال تعالى: (الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّات) النور 58، فالقرآن لم يحدد عمرًا معينا، إنما أكد أن البلوغ شرط المسؤولية والتكليف، كما أننا لا نجد في السنة تحديدًا واضحًا لسن البلوغ، وإن قيل سبعًا، وتسعًا، وعشرا، وهناك بلوغ الأشُدّ والذي يبدأ من سن 18 إلى 40 عاما.

وخلاصة القول، إن هذا يوحي لنا بوجود نوعين من البلوغ، بلوغ بدني غريزي ترتبط به التكاليف العِبَاديَّة، وبلوغ جسمي عقلي تربط به المسؤولية الجنائية وتكمل به الأهلية، وإن هذا الاستنتاج يتعزَّز بالواقع، فالبلوغ يختلف حسب الواقع الجغرافي للإنسان، فالأفراد الذي يعيشون في المناطق الحارة، يصلون إلى سن البلوغ الجنسي قبل الأفراد الذين يعيشون في المناطق الباردة، ومنه نستنج بأنه لا يمكن تحديد عُمْر معين للبلوغ تابع للظروف الجغرافية والطبيعية، بل لا يمكن تحديد سن معينة له حتى تكون قاعدة عامة تنطبق على الجميع، وطالما وقد اتفقت الأمم اليوم على تحديد سنَّ 18 سنة، كدليل مطرد على رشد الإنسان العقلي، عندها يمكنه تحمل تبعات أفعاله ويكون مسؤولًا جنائيا عنها، وهذا الاتفاق تجسده الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل المذكورة سلفًا!


▪️ثالثا/ التوصيه:

ومما سبق ذكرة، ينبغي علينا التحديد الدقيق للسن القانوني في التشريع اليمني؛ كركيزة أساسية في أي نظام قانوني، لا سيما في التشريعات المتعلقة بمسؤولية الأحداث الجنائية، وحقوق الطفل، وهذا الآمر يكتسب أهمية بالغة؛ نظراً لتأثيرها المباشر على تطبيق القوانين، وحماية الفئات المستضعفة، وضمان مبدأ العدالة، وكذا محو أي غموض أو تباين أو تأويل في تفسير النصوص القانونية المتعلقة بتحديد السن، الذي يمكن أن يؤدي إلى عواقب وخيمة، ويؤثر على مصير الأفراد وحقوقهم.. ولذلك:

نوصي المشرع اليمني بتعديل عبارة (إذا لم يبلغ) الواردة في الفقرة الاخيرة من المادة (٣١ عقوبات)، الى عبارة (إذا لم يتم) أو (إذا لم يكمل)؛ كل ذلك لمعالجة اي إشكال تطبيقي بخلاف مفهوم النص القانوني، والحد من التطبيق الخاطئ لنصوص القانون، ذات العلاقة في الميدان العملي القضائي.. والله الهادي الى سواء السبيل، إنه نعم المولى ونعم النصير.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.