هل يعاقب القانون اليمني على عقوق الوالدين كجريمة؟؟!!
"دراسة تحليلية مقارنه"
#تمهيد:
مما لا شك فيه، أن قضية تنامي العنف الأسري، وتطور طبيعة واشكال الجرائم داخل نطاق الاسرة، باتت من القضايا التي تؤرّق الاسرة اليمنيه؛ مما يستدعي ضرورة تكثيف الجهود، نحو استحداث وتطوير قانوني.. وفي هذا الإطار، رافق الواقع اليمني ظواهر إجتماعية في السنوات الأخيرة، تتطلب الوقوف أمامها، لإيجاد معالجات قانونية لها، إلا أن ظاهرة "عقوق الوالدين" وتعنيفهم من قبل الأبناء، تُعدّ الأخطر على المجتمع؛ لأنها لا تخالف الشرع والدين فحسب، وإنما هي مؤشر وبداية للتفكك الأسري، وتمزيق النسيج الاجتماعي.
وتأتي أهمية هذة الدارسة من خلال ظهور مشاكل اجتماعية رافقت الواقع اليمني في السنوات الأخيرة، حيث أن ظاهرة عقوق الوالدين كما ذكرنا، ماهي إلا بداية للتفكك الأسري وتمزيق النسيج الاجتماعي، وأن دور الرعاية خير شاهد على وضع الأبناء لوالديهم فيها والتخلي عنهم، كما أن بعض القوانين الوضعية العربية أشارت الى جريمة عقوق الوالدين، وعلى هذا النحو، لابد من ضرورة لفت المشرّع اليمني الى معالجة مواطن القصور الموجود في قانون العقوبات، وبما يضمن الحماية الجزائية للوالدين. كما تتمحور مشكلة الدراسة حول الحماية الجنائية للوالدين في التشريع اليمني، وبيان أوجه القصور التشريعي تجاه الوالدين في التجريم والعقاب، وتتمثل هذة الأشكالية في وضع سؤال يتلخص بالأتي: هل وفّر التشريع اليمني الحماية الكافية للوالدين تجاه افعال عقوقهم؟؟
ومن هذا المنطلق، سنتحدث في هذة الدراسة القانونية المختصرة، عن جريمة عقوق الوالدين في اربعة محاور: نتناول في الأول ماهية الجريمة وصورها وأهم عوامل ارتكابها واسبابها، ونتطرق في المحور الثاني لموقف الفقة الاسلامي منها، وكذا التشريعات العقابية العربية، ونستعرض في المحور الثالث موقف المشرع اليمني، ونخصص الرابع للحديث عن إثبات الجريمة واشكالية التطبيق العملي، ونختم الدراسة بوضع نتائج وخلاصة عن الدراسة، مع طرح بعض المقترحات والتوصيات المتواضعه قدر الإمكان.
#المحور الأول: ماهية الجريمة، وصورها، وعوامل ارتكابها واسبابها:
ولدراسة هذا المحور بالتفصيل نقسمه الى ثلاثة فروع: نتناول في الاول ماهية الجريمة، ونتطرق في الفرع الثاني لصور الجريمة، ونخصص الثالث لأهم اسباب وعوامل ارتكاب هذة الجريمة.
الفرع الاول: ماهية الجريمة ومفهومها:
يعرّف العقوق لغةً: "بأنه المعصية، ويُقال: عصيانُ الولد لوالديه، وجَحْد فَضْلهما، وإنكار حقّهما، وترْك الشّفقة عليهما". ويعرف اصطلاحاً: "بقطْع الرّحم مع الوالدين، وعدم وصّلهما". وتماشيًا مع ما تم ذكره، فإن ماهية الجريمة مشتقة من لفظ "العقوق"، ومفردها العق، وهو القطع والشق، والذي يعق والديه يقطع رحمهما، ويشق عصا طاعتهما. قال "أبن منظور" في اللسان: "وعق والديه يعقهما عقا وعقوقا، قطعهما ولم يصل رحمه منهما، وقد يُعَمُّ بلفظ العقوق جميع الرحم".
وعلى هذا الاساس، فعقوق الوالدين، هو ضد برهما الذي أمر الله تعالى به في محكم كتابه، وعلى لسان رسوله ﷺ. ومما لا شك فيه، أن عقوق الوالدين من الذنوب التي يعجل الله تعالى لصاحبها، بالعقوبة في الدنيا مع ما ينتظره في الآخرة، وليس هناك نص شرعي معين، يحدد نوعية هذه العقوبة.. وقد يكون من عقوبته في الدنيا، أن الله تعالى يبتليه ويعاقبه بعقوق أبنائه، فيعاملونه كما كان يعامل أبويه أو أشد، فالجزاء من جنس العمل!
الفرع الثاني: صور الجريمة:
يمكن اجمال أهم مظاهر وصور عقوق الوالدين في حياتنا اليومية، وهي على سبيل المثال لا الحصر كالاتي:
- عدم برّ قسمهما والتّساهل في ذلك، مع القدرة على البرّ بقسمهما وإسعادهما في ذلك.
- خيانتهما وعدم حَمْل الأمانة التي كُلّف الولد بها.
- الغياب الطويل عن الوالدين، دون حاجة أو ضرورة.
- سبّ الوالدين وشتمهما أمامهما أو في غيابهما.
- البخل على الوالدين في النّفقة والعطاء.
- استثقال أمر الوالدين، والتضجّر من تنفيذ سؤالهما ومطالبهما.
- إظهار عدم احترام وتقدير الوالدين.
- العبوس في وجههما عند إطاعة امرهما.
وفي المحصلة، فإن للعقوق له صور ومظاهره عديدة، فقد يكون بالفعل، أو بالترك، أو بالإهانة، أو بالسب، أو بالاهمال، أو عدم الرعايه، أو القطيعه ونحو ذلك...
#الفرع الثالث: عوامل ارتكاب الجريمة واسبابها:
يمكن إيجاز أهم عوامل ارتكاب جرائم عقوق الوالدين بالاتي:
1 - العوامل الوراثية:
فالجانب الوراثي يمكن أن يكون سببا للعقوق والعنف مع الوالدين، وهذا راجع لسلوك توارثة الابناء من أبائهم أنفسهم، الذين كانوا يتصفون بشخصية عنيفه تجاه أبائهم!
2 - العوامل النفسية:
ويرجع هذا لاصابة بعض الأبناء بامراض الاكتئاب، أو انفصام الشخصية، أو الوسواس القهري، أ والضغط النفسي، أو العزله والانطواء، وكذا خبرات الأساءة في التعامل مع الابناء في طفولتهم!!
3 - العوامل الاقتصادية:
كانتشار البطالة، أو تفشي الفقر بصفة كبيرة، أو حتى الى الغنى الفاحش الذي قد تؤدي أحيانًا الى تنامي وارتفاع مستوى العنف لدى الابناء، وكذا ظهور السلوك الانحرافي أو الاجرامي!!!
4 - العوامل الاجتماعية:
وابرزها الاهمال في التربية والرعاية، أو الادمان على تناول الكحول أو تعاطي المخدرات، أو الهوس بتناول القات، وكذلك الادمان على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بصورة سلبية، وكذا دور الاعلام السلبي في هذا الخصوص.
وحريًا بنا التطرق، لاسباب ومظاهر أخرى أدّت الى تفشي وتنامي جرائم عقوق الوالدين، وابرزها:
1 - العيب الاجتماعي في الابلاغ عن هذة الجرائم.
2 - الحرص على اخفاء هذة الجرائم داخل الاسرة.
3 - دخول التسويات بالمراضاة على الخطأ (الشفاعات الاجتماعية السلبية) من قبل ألاهل والاقارب والجيران والاصدقاء دون الوصول للسلطات الرسمية.
4 - الاعتياد على تنازل الوالدين عن بلاغاتهم وشكواهم ضد أبنائهم لدى جهات الاختصاص.
#المحور الثاني: موقف الفقه الإسلامي, والتشريعات العقابية العربية:
ولدراسة هذا المحور بشكل مفصل نقسمه الى فرعين نتناول في الاول موقف الفقة الاسلامي ونخصص الثاني لموقف التشريعات العقابية العربية.
الفرع الاول: موقف الفقة الاسلامي:
مما لاشك فيه، أن برّ الوالدين ورضاهما من أهمّ القُربات والعبادات لله سبحانه وتعالى، ولقد قرن المولى عزّ وجل عبادته وتوحيده، ببرّ الوالدين ورضاهما وطاعتهما بأكثر من موضع في القرآن الكريم، ومنها، قوله تعالى: (وَقَضى رَبُّكَ أَلّا تَعبُدوا إِلّا إِيّاهُ وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا). {الاسراء : 23}. وقوله عزّ وجل: (قُل تَعالَوا أَتلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُم عَلَيكُم أَلّا تُشرِكوا بِهِ شَيئًا وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا). الانعام/ 151.
وغني عن البيان، أن الشريعة الاسلامية، رغّبت في برّ الوالدين وشجّعت عليه، وبغّض المسلم في غضب الوالدين، تطبيقًا لقوله تعالى: (إِمّا يَبلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُما أَو كِلاهُما فَلا تَقُل لَهُما أُفٍّ وَلا تَنهَرهُما وَقُل لَهُما قَولًا كَريمًا). {الاسراء : 24}. كما بيّن رسولنا الكريم ﷺ، بأنّ عقوق الوالدين من أكبر الكبائر بعد الشّرك بالله تعالى، عملاً بقوله عندما سُئل عن الكبائر في الإسلام، وأجاب: (الشِّركُ بالله، وقتلُ النَّفسِ، وعقوقُ الوالِدينِ).
ومما تجدر الاشارة بالقول، أن ضعف الوازع الديني للفرد، وعدم ادراكة لخطورة الفعل الشنيع، يؤدي بالابناء الى انحرافهم، ومن ثم ممارسة العنف ضد أولياء أمورهم، رغم تحريم الدين الاسلامي لهذا السلوك وبشكل قطعي، كما أن عدم أكتمال المعنى الايماني في نفسية الفرد، يجعله لا يرضى بما كتبه الله له، مما قد يؤدي الى استسلامه ويأسه وقنوطه، ويترتب على ذلك في الأخير، الى الادمان على المخدرات والمؤثرات العقلية؛ للهروب من الواقع المعاش، ومنه الى السلوك العنيف تجاه والدية.
الفرع الثاني: موقف التشريعات العربية:
أنقسم المشرّع العربي في موقفه من هذة الجريمة، الى تشريعات نصت صراحة على تجريم فعل عقوق الوالدين، وتحديد عقوبة لها، وتشريعات ما زالت في مرحلة إعداد مشروعات؛ لاضافة هذة الجريمة ضمن القوانين العقابية، ولم تقرَ حتى اللحظه، وتشريعات أخرى لا تعاقب على هذة الجريمة، وفي نفس الوقت، لا يوجد لديها مشروع تعديلات لتجريمها وعقابها حتى اللحظه، ومنها اليمن! ونوجز ما تناولته هذة التشريعات وفقًا للأتي:
١- المشرّع السعودي:
نص على تجريم عقوق الوالدين، في القرار الوزاري السعودي، رقم 1900 وبتاريخ 9 /7 /1428، ليحدد عقوبة جريمة عقوق الوالدين بعقوبة شديدة، تصل إلى السجن ١٥ سنه والجلد احيانا.
٢- المشرّع العماني:
نص في قانون الجزاء الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (7/74) في الباب الرابع منه، نص البند (5) من هذا الباب في المادة (217)، على عقوبة السجن إلى سنة، لكل من طرح أو ترك والده عاجز عن حماية نفسه، بسبب حالة جسدية أو نفسية، أو ألجأه إلى التسول والاستجداء، وإذا طرحه في مكان مقفر، كان العقاب من سنة إلى ثلاث سنوات، وتضاعف العقوبة، إذا كان الشخص الذي طرح أو ترك الوالد أو العاجز، ممن يلزمهم القانون برعايته، وإذا أصيب المعتدى عليه بأذى جسيم، يعاقب الفاعل بالسجن خمس سنوات على الأقل، وإذا حصلت وفاة المعتدى عليه، فيكون العقاب من عشر سنوات إلى خمس عشرة سنة.
٣- المشرّع الجزائري:
نص في المادة (267) من قانون العقوبات، على عقوبات الاعتداء على الوالدين والأصول، فكل من أرتكب فعلًا إجراميًّا سبب لأصوله، عجزًا مرضيًّا أو عجزًا في الصحة العامة، أو قضاء الحاجات الشخصية، أو تسبب في موته عن عمد، يعاقب بالسجن المؤقت من 5 إلى 10 سنوات، في حال لم ينشأ عن الفعل الإجرامي ضرر، وبالسجن المؤقت من 10 إلى 20 سنة، إذا تسبب الاعتداء في فقدان عضو، أو حاسة، أو حدوث عاهة مستديمة.
٤- المشرّع العراقي:
نص في المادة (29) من الدستور، الى وجوب رعاية الأبناء للآباء والاهتمام بهم عند الكبر، ويشدد قانون العقوبات العراقي في الاعتداء، حيث ترتفع العقوبة عند الاعتداء على الآباء في المواد (410) والمادة (416)، إذا كان الضرر نفسياً أو أدبياً على من توجب عليه الرعاية والاهتمام.
٥- المشرّع المصري:
نص في مشروع القانون المعروض على البرلمان، على معاقبة كل من سبّ أحد والديه أو هان أحدهما أو هجرهما أو أحدث بأحد والديه جرحًا أو ضربًا، بالسجن من 3 سنوات إلى خمس سنوات، ويضاعف الحد الأقصى للعقوبات، إذا عاود ارتكاب الجريمة مرة أخرى. وتضمن مشروع القانون معاقبة الأبناء، في حالة التنمر على الوالدين، أو محاولة فرض سيطرة، أو أستغلال ضعفهما وشيخوختهما؛ لفرض أمر واقع، أو طردهما من مسكنهما أو الإساءة إليهما باللفظ أو القول أو الفعل، أو وضعهما موضع سخرية، بالحبس مدة لا تقل عن 6 أشهر، وبغرامة لا تقل عن 10 آلاف جنيه ولا تزيد عن 50 ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين. كما نص مشروع التعديل، على معاقبة الأبناء بالحبس مدة لا تقل عن سنة، وبغرامه لا تقل عن 30 ألف جنيه ولا تزيد عن 100 ألف جنيه، أو بإحدى العقوبتين، إذا وقعت الجريمة من شخصين أو أكثر.
#المحور الثالث: موقف المشرّع اليمني:
لم ينص المشرع اليمني، على تجريم فعل عقوق الوالدين صراحة، وهو بذلك يساير معظم القوانين العقابيه الأخرى، ماعدا القلّه من القوانين التي جرّمت هذا الفعل، كما ذكرنا ذلك، في موقف التشريعات العربية من هذة الجريمة.
ومن نافلة القول، أن هناك نص عام في الدستور اليمني (م٤٧)، تنص صراحة على الأتي: (لا جريمه ولاعقوبه إلا بنص شرعي أو قانوني). وباعتبار الدستور أبو القوانين، وماجاء فيه عباره عن مبادئ وقواعد عامه لكل القوانين، فيثار التساؤل الأتي: هل يمكن الإعتماد على هذا النص في العقاب على جريمة عقوق الوالدين، ويبقى اجتهاد القاضي، في تحديد العقوبه المناسبة طبقًا للشرع؟؟ وللاجابة على هذا التساؤل، قد ينقسم الرأي الى اتجاهين:
- الاتجاة الأول/ يرجح ضرورة تطبيق العقاب، طالما وإن النص الدستوري، رخّص لتجريم هذه الجريمه، وما على القاضي سواء الاجتهاد في تحديد العقوبه، مثلها مثل جرائم التعازير الاخرى.
- أما الاتجاة الثاني/ فيرى عدم كفاية هذا النص الدستوري، على أعتبار أن القانون الخاص (العقوبات)، نص في الماده (٣) صراحة بالأتي: (لاجريمه ولا عقوبه إلا بنص قانوني). وهنا يكمن الفرق، حيث أن الدستور صرح بنص (شرعي أو قانوني)، أما قانون العقوبات فقد صرّح بنص (قانوني فقط).. وعلى هذا الأساس، لايجوز المعاقبه على هذه الجريمه، طالما لم ينص قانون العقوبات على تجريمها.
وفي تقديرنا - المتواضع - نميل الى ترجيح المذهب الثاني؛ وتنطوي وجهة نظرنا هذة؛ باعتبار مرتبة القانون مرتبه خاصه في مقابل الدستور، والذي يعدّ مرتبته عامه، وتطبيقًا للقاعدة الأصولية القائله: (أن الخاص يقيد العام)، فلايجوز قانونًا المعاقبه على هذه الجريمه، طالما لا يوجد نص بتجريمها في القانون الخاص (العقوبات)؛ ناهيك عن ذلك، إذا تركنا أمر العقاب متروك لتقدير القاضي، فإن هذا الأمر سيترك للاجتهادات بحسب الأمزجة والاهواء، مما يعدّ خرق ومخالفة صريحة لمبدأ التجريم والعقاب، والقاضي بأن "لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص".
ولعله من المفيد التأكيد، على أن قانون العقوبات اليمني، يجرّم بعض الافعال والصور التي تندرج ضمن هذة الجريمة، لكن ليس باعتبارها جريمة عقوق والدين، وإنما باعتبارها من الجرائم التقليدية التي تقع على أي شخص كان: "كالسب، أو الاعتداء الجسماني الخفيف أو الجسيم، أو السرقه، أو الابتزاز ونحو ذلك…". وفضلاً عن ذلك، فإن المشرع لم ينص صراحة كنص خاص، على أعتبار الوالدين "كمجني عليهما"، ظرفًا مشددًا للعقاب في الجرائم المذكورة، بل اعتبرهما أشخاص عاديين، وإن كان هناك نص عام ورد في المادة (109)، والتي ذكرت صراحة، بمراعاة القاضي عند تطبيق العقوبة الظروف المشددة والمخففة الاتية، وذكر منها: "علاقة الجاني بالمجني علية"، والتي تطبّق كظرف مشدد أو مخفف للعقوبة بما يقدرة القاضي من ظروف وملابسات ارتكاب الجريمة!
#المحور الرابع: إثبات الجريمة، واشكالية التطبيق العملي:
وللبحث في هذا المحور الهام سنقسمة الى فرعين: نتناول في الاول اثبات الجريمة، ونخصص الفرع الثاني لاشكالية التطبيق العملي لهذة الجريمة.
الفرع الاول: إثبات الجريمة:
مما لا شك فيه، أن العلاقات الاسرية داخل المنزل، دائمًا ما تكون مخفيّه عن أنظار الأخرين، وتكتنفها بعض الاسرار والكواليس، الذي لا يعلم بها إلا المولى سبحانه وتعالى.. وتفسيرًا لذلك، تبقى إشكالية إثبات جريمة عقوق الوالدين قائمة في التطبيق العملي، بل أنها أحد المعضلات التي يمكن أن يواجهها المختص (المحقق أو عضو النيابة).. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يمكن أن يُقدم الأب أو الأم الى قسم الشرطه، ويبلغ أن أبنه فلان عاصي، أو ينهره دائمًا، أو لا يطيعه ولا يسمع كلامه، أو قد يصل الأمر الى الشكوى من قطيعته، فيضطر المختص بحبس الأبن، ويمرّ أحيانًا يومين أو ثلاث أو زيادة على ذلك قليلاً، لتتفاجئ بالأب يعود للمختص، ويطالبه بالافراج عن إبنه، ويندم على الابلاغ عنه، حتى يصل الأمر الى البكاء، فيضطرّ المختص للافراج عن الأبن.
وبناءً على ما سبق ذكره، نجد أن هناك مخالفات قانونية، قد يرتكبها المختص من جهة قيامه بحبس الأبن مباشرة دون حتى مجرد أخذ أقوال الأب والأبن، والقانون لا يخوّل له ذلك، وحتى وإن أجاز له الشرع ذلك، إلا أن وجود النص القانوني الصريح القاطع، أصبح لا غنى عنه، وإلا تركنا تشريع التجريم على حسب اجتهادات المختصين، مع أنه سامع الشكوى مطبّق للقانون لا مشرّع له! ومن جهة أخرى، ندخل في إشكال إثبات الواقعه السابقه، فهل كل أب يلجئ بالشكوى على إبنه نقوم بحبسه؟! فقد يجيب الأكثر منا "بنعم"؛ لإن العاطفة تغلب على العقل غالبًا، بينما قد يجيب القلّة "بلا"؛ لأن الأمر يحتمل أن يكون الأب مصابًا بمريض الشيخوخة المتقدمة، أو الخرف، أو الزهايمر، أو قد يكون مُحرّض من أحد ابنائه الأخرين، أو يحتمل أن يكون الأب متزوج من أخرى ولها دور في تحريضه وما شابه ذلك من فرضيات واحتمالات التي تستدعي وبشكل بديهي التحقيق فيها.
الفرع الثاني: اشكالية التطبيق القضائي:
استنادًا لكل لما سبق ذكره، فإن هذة إشكالية جريمة عقوق الوالدين واثباتها، تستدعي البحث عن حلّ توفيقي، بين طاعة الأب من جهة؛ باعتبارها من طاعة الله عزّ وجل، وبين تطبيق القواعد الشرعيه والقانونية، لإثبات دعوى الأب من جهة أخرى، فالبينة على المدعي واليمين على المنكر. وفي "تصورنا المتواضع"، أن هذة الاشكالية يمكن تحققها، والبحث عن معالجة لها في خلال الحالات الاتية:
- الحالة الأولى/ أن يبلغ الأب عن أبنه لارتكابه جريمة من الجرائم التقليديه، والمذكورة نصًا في القانون، كالسرقة، أو النصب، أو الابتزاز، أو التهديد، أو حتى الاعتداء الجسماني وما شابه ذلك… وفي هذة الحالة، نرى أن تطبّق قاعدة "البينة على المدعي واليمين على من أنكر".
- الحالة الثانيه/ حالة قيام الأبن بارتكاب فعل، ولا نقول عليه جريمة بالمعنى التقليدي، وإنما افعال من قبيل النهر، أو عدم الطاعه، أوالقطيعه، أو التأفف، أو أي صورة من صور المعاملة السيئة، وفيها نرى أن الأنسب هو، قبول قول الأب مبدئيًا لاثبات الجريمة، لكن يجب الأخذ بالحسبان مراعاة علاقة الأب بأبنه، وللمختص سماع أقوال ابنائه وبناته الاخريات، أو الأهل، أو الاقارب، أو الجيران.. كما يجب منح الفرصه للأبن، بالرد على دعوى أبيه، وسماع اقواله، وبينته، فقد يدفع دعوى والده، بنفيها بأدله صحيحه.
- الحالة الثالثه/ أن تتدخل الأم في الموضوع، وتكون اقوالها الى جانب الأب، فهذة بلا شك تدعم أقوال زوجها وتثبّت اقواله، لكن بالمقابل، إن انكرت الأم دعوى الأب ونفتها نفيًا قاطعًا، وفي هذة الحالة أرئ بإن المشكلة أصبحت أسريه، أكثر منها مجرد جريمة، ولا سبيل إزاء ذلك، إلا بحلها بواسطة أهل الخير والاقارب، أو الجهات المختصة بحلّ المشاكل الاسرية، شرط أن لا يرقى "فعل العقوق"، مرتبة الجرائم المنصوص عليها في الحالة الأولى والمشار أليها سلفًا.
#خاتمة النتائج والتوصيات:
اولا: النتائج:
استخلاصًا لما سبق، يمكن وضع نتائج لهذة الدراسة نوجزها بالأتي:
١- إن مسألة عقوق الوالدين، أصبحت من الظواهر الاجتماعية السيئة، التي انتشرت بين أبناء المجتمع اليمني؛ ولأسباب عدة، وهي مبعث للتفكير الجدي، بضرورة محاصرة تلك الظاهرة الطارئة، ومعالجتها عبر إيجاد صياغة تشريعية متأنية وشاملة، من شأنها إجبار الأبناء على الالتزام بتلك الفريضة الإلهية العظيمة.
٢- يجب الأخذ بالحسبان، أن طاعة الوالدين من طاعة الله، وبرهما من الفرائض، وعقوقهما من الكبائر، وهذا يشمل الطاعات التي يحبها الله، ولذلك ينبغي على الابناء طاعة والديهما، في المعروف الذي لا ضرر ولا معصية فيه، أما إذا أمره بمعاصي الله، بأن لا يصلي في المسجد، أو أن يشرب الخمر، أو أن يعمل بالربا، أو أمره بشيء آخر مما يضرّه، فلا يلزمه طاعتهم، لقول النبي ﷺ: "إنما الطاعة في المعروف فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق".
٣- لعله من المفيد التأكيد، أن على الابن وإن أمره والديه بغير طاعة الله، فيجب على الابن عدم تركهما، ولا اهمالهما لهذا السبب، بل عليه أن يرد عليهما بالكلام الطيب، والأسلوب الحسن، والدعاء لهما بالتوفيق والهداية، ويبين لهما عذره من أن المعاصي ما يطاع فيها أحد، لا الوالد ولا الأمير ولا السلطان، مصداقًا لقوله تعالى لنبيه: (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ). {الممتحنة : 12}. فإذا أبلغهما ذلك وفهمهما، فإنهما إذا كانا عاقلين يرضيا منه بذلك؛ لأن العاقل يفهم العذر الشرعي، أما إذا كانا متعصبين لرأيهما بدون حجّة، فإنه لا يلزمه أن يطيعهما فيما يضرّه، أو فيما هو من معاصي الله.
٤- من الضروري أن ننوه، بأنه لا يجوز للولد أن يقطع والديه؛ لخلاف بسيط بينهما، وينهى أبناءه عن مواصلتهما، فلا يجوز عقوقهما ولا قطيعتهما؛ لفعل شيء مما يضرّه، بل على الابناء أن يصلوا والديهما، ويحسنوا إليهما، ويرفقوا بهما بالكلام الطيب وبكل ما يستطيعوا، مصداقًا لقوله تبارك وتعالى في حق الكفرة: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا). [لقمان : 15]. فوجه الدلاله لهذة الايه، أنه أمره أن يصاحبهما في الدنيا بالمعروف مع أنهما كافران، فكيف بالمسلمين!! والوالدين لو جاهداه على الشرك وطلبوا منه ذلك، لا يطيعهما في الشرك، لكن بالمقابل لا يعقهما، ولا يقطعهما، بل يرفق بهما ويحسن إليهما، وإن كانا قد أساءا إليه، كما ينبغي أن يدعو لهما بالهداية في كل حين.
٥- إن الأهمية المجتمعيه، تستدعي تجريم فعل عقوق الوالدين، وتحديد عقوبة مناسبه رادعه زاجرة للأبن العاق، فكم من وقائع حدثت؛ تدفع للتقدم بتعديل القانون، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: واقعة أولى/ شاهدها وسمع عنها أغلب المواطنين، وهى قيام احد الابناء، بطلب من سائق تاكسي، أن يوصل والدته إلى عنوان شقيقته وأعطاه العنوان، وعندما ذهب السائق بالأم إلى ابنتها، رفضت أن تستضيفها، وقالت أن زوجها حلف عليها بالطلاق ألا تستضيفها، وطلبت من السائق، أن يعود بوالدتها إلى المكان الذى أتى بها منه، وظلّ السائق حائرًا طوال الليل بالسيدة المُسنّه! و واقعة ثانيه/ لأم تركها أبنائها فى دار المسنين، وتم الاعتداء عليها فى الدار! أما الثالثة/ فواقعة يشيب لها شعر الرأس، ويقشعر لها البدن، وتتلخص بقيام أحد الابناء بالتعدي على والدته، ووصل الأمر الى حبسها، ولم يسمح لأى أحد أن يراها".
ثانيا: التوصيات والمقترحات:
استنتاجًا لما سبق ذكرة، ونظرًا لانتشار ظاهرة عقوق الوالدين في الآونة الأخيرة بالمجتمع اليمني، ولما كان بعض الأبناء، يقدمون على هذا السلوك المشين، متجاهلين بذلك التعاليم الدينية والأخلاقية والسلوكية، وبما أن القانون يقف عاجزًا أمام ردع هذا السلوك الشاذ في مجتمعنا الاسلامي، وحرصًا على الحفاظ على تقاليد وقيم وعادات الروابط الأسرية اليمنية الاسلامية، نُهيب بالمشرّع اليمني، العمل باستحداث مادة جديدة، تضاف لقانون العقوبات، تُجرّم وتعاقب على هذا الفعل، وفقًا للأتي:
١- تُضاف مادة جديدة لقانون العقوبات، نصها كالآتي: "مع عدم الإخلال بأي عقوبة أشد، تقضي بها القوانين النافذة، يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن سنة، أو بالغرامة، كل من قام بعقوق والديه، سواء بالسب، أو القذف، أو النهر، أو الإهانة، أو الترك، أو عدم الرعاية، أو الاهمال، أو التبرؤ منهما، وتشدد العقوبة بالحبس الذي لا يزيد عن ثلاث سنوات، في حال تسببت الافعال بأضرار صحيه على الوالدين".
2 – نوصي أن يكون مجرد محاولة الاعتداء على الأب أو الأم جريمة تامة، ولا تدخل ضمن نطاق الشروع؛ كون تلك الجريمة تعتبر إستثناء من القواعد العامة، وبإعتبارها ظاهرة اجتماعية سلبية في المجتمع.
3 - نقترح أن تراعي المحكمة طلب الوالدين "كمجني عليهما"، في تحديد مدة العقوبة، أو تنفيذها، أو وقفها، والواردة في البند الاول، وفق المصلحة الأسرية التي تقتضي ذلك.
4 - من المستحسن إذا ارتكبت أي جريمة من الجرائم المذكورة في قانون العقوبات، وكان المجني عليهما والدي الجاني أو أحدهما، يجوز للقاضي أن يشدد العقوبة الى نصف ضعف العقوبة المقررة للجريمة نفسها، وإذا كانت الجريمة المرتكبة هي القتل العمد، جاز أن تكون العقوبة الإعدام تعزيرًا، بالاضافة الى وجوبها قصاصًا.
5 - فيما يتعلق بقانون الاجراءات الجزائية، نوصي بإضافة فقرة جديدة، في المادة المتعلقه بجرائم الشكوى، باعتبار جريمة عقوق الوالدين من ضمنها.
6 – نشدد على الدور الكبير للجهات والمؤسسات التعليمية والدينية؛ من أجل العمل على توعية أفراد المجتمع ببر بالوالدين واحترامهما، وعدم المساس بحقوقهما بأي شكل غير مشروع ويخالف الدين والاخلاق والقيم والاعراف الاجتماعية.
وفي الاجمال، يثار التساؤل: هل يتصور أن يعاقب الأبن في أي جريمة يرتكبها ضد والديه، بمثل عقوبة أي جريمة يرتكبها ضد شخص عادي؟؟ وبمعنى أدقّ، من يسب، أو يسرق، أو ينصب، أو يبتز، أو يعتدي جسمانيًا، أو يقتل، أبيه أو أمه، هل يعادل فعله إذا كان المجني عليه شخص أخر؟؟!! بكل تأكيد كلا؛ لأن المصلحة الاسرية، وكل الشرائع السماويه، تستدعي أن تكون العقوبة مشددة ومغلّظه؛ حماية لوالدينا؛ وليكون الجاني عبرة لمن لا يعتبر!! لذلك وضعنا توصياتنا ومقترحاتنا كما هو مشار إليه سابقًا.
نسأل الله تعالى الهدايه لاولادنا..
هذا والله أعلم، وهو الموفق للصواب.
✍️ المستشار/
د. صالح عبدالله المرفدي
عضو المحكمة العليا للجمهورية